" خالد الأمين" اسم يتردد بين الحين والآخر، عند الحديث عن الأدباء والكتاب والشعراء الذين تركوا أثرهم الإبداعيّ والجماليّ على من عاصرهم أو من جاء من بعدهم، ولكنّهم فقدوا حياتهم في زمن التسلط الفاشيّ البعثيّ في العراق، الزمن الذي شهد أبشع أشكال التعذيب والتنكيل والإذلال وإنهاء الوجود، بعد أن تحول إلى ممارسة ثابتة لتلك السلطة ضدّ من يخالفها أو يحمل أفكاراً تناهض فكرها ونهجها الدكتاتوريّ المخيف.
التذويب في احواض " التيزاب...حامض الهايدروكلوريك"، أي وضع الاشخاص في هذه الاحواض حتّى تتفتت اجسادهم وتذوب عظامهم ويلغى وجودهم وآدميتهم، احدى ممارسات سلطة الفاشيّة البعثيّة.. ما يروى عن سيرة "خالد الأمين" انه كان أحد الذين ذوبوا، وألغيّ وجودهم من الحياة في تلك الاحواض، فيما تحولت أسماء مثل " ناظم كزار، صدام حسين، احمد حسن البكر، مديريات الأمن العامة، المخابرات، سجن رقم واحد، نگرة السلمان، قصر النهاية"..الخ إلى أسماء وأماكن تقترن بالقسوة والإذلال والتنكيل المريع الذي مورس بحق العراقيّين!
لا أعرفه شخصيا، ولكنّي قرأت العديد من نصوصه الشعريّة المتناثرة والمبعثرة، هنا أو هناك. فلم تصدر له حتّى اليوم مجموعة شعريّة، أو كتاب، رغم كلّ ما يقال عن غزارة انتاجه وتميز وفرادة شعره. وكذلك سمعت الكثير عنه، عن الشاعر والمثقف الحداثيّ المختلف والمجدد والرمز، وكذلك عن سيرته كمناضل واجه الدكتاتوريّة وفعل الكثير، سياسياً، واجتماعياً، وثقافياً من أجل مواجهتها، عن النشاط السياسيّ والاجتماعيّ للكادر الشيوعيّ الوسيم والأنيق الذي رفض انتهازيّة القيادات الحزبيّة التي ضحت بالكثير من العراقيّين، فضاعت وأضاعت الجميع، عن الخذلان والوشاية والتشفي المخجل الذي عاشه، عن اختطافه في مطلع 1972 ورحلة العذاب الأليم التي عاشها من لحظة الاختطاف وحتّى لحظة مغادرة هذا العالم، بجسد أكلته السّياط وبرودة التيزاب وبذاءة الجلاد وقسوته المفرطة حين يعجز عن كسر كرامة من يعذبهم أو يفشل في تسقيطهم.
" رصيف سوق الأزهار: مختارات من الشعر الفرنسي المعاصر" كتاب صدر في عام 1970 عن منشورات دار الاديب العراقيّ. وقد ضم مجموعة من النصوص الشعريّة التي ترجمها، عن اللغة الانكليزية، " أحمد الباقريّ" لعدد من الشعراء الفرنسيّين، سان جون بيرس، بول ايلوار، اندريه بريتون، هنري ميشو، جون سوبرفييل، ايف بونفوا، وبيير ريفيردي..
ورغم الأهمية اللافتة لهذا الكتاب الذي استمد عنوانه من قصيدة " رصيف سوق الأزهار" للشاعر بيير ريفيردي، كونه قدم، أبرز وأهم شعراء فرنسا الذين كانت لهم تأثيرات واضحة على مسار الحداثة الشعريّة في العالم العربي، إلاّ أن المقدمات التي كتبها " خالد الأمين " مقدمة خاصة لكلّ شاعر، كانت أبرز ما ميز الكتاب وكانت إيذانا بوجود ناقد ومثقف عراقيّ لا يقل حداثة ومخيلة وبلاغة وصورة شعريّة عن الشعراء الذين كتب عنهم تلك المقدمات.
محاولات كثيرة، بذلت، من أجل الحصول على هذا الكتاب، لم تنجح إلاّ مؤخراً. حيث حصلت على نسخة مصوّرة من مترجمه الاديب أحمد الباقريّ.. وازاء حالة غياب نصوص خالد الأمين الشعرية ومنجزه الإبداعي عموما، فقد وجدت من المناسب أن أعيد نشر المقدّمات التي كتبها للمجموعة المذكورة من الشعراء الفرنسيّين، كما جاءت على صفحات الكتاب المذكور، مع بعض التصويبات اللغوية والاملائية التي وجدناها ضروريّة جداً*، مع الحفاظ على المفردات كما وردت في النص الأصلي. على أمل أن تسنح لنا فرصة تصوير الكتاب وعرضه كاملاً عبر المواقع المختصة بنشر الكتب. وأن يكون ذلك محاولة لإستعادة خالد الأمين الإنسان، والشاعر والناقد.
في هذه المقدّمات، لا يسعى خالد الأمين للغور، نقدياً، في التجربة والمنجز الشعريّ لهؤلاء الشعراء، ولكنّه يقدم تصوراً أخاذاً وبلغة مرهفة، عن حياتهم، سيرهم، لغتهم، ومزاجهم الشخصيّ...الخ. وقد تسنح لنا الفرصة، مرّة أخرى، لتقديم نصوصه الشعريّة، ليس من أجل تقديم قراءة نقديّة وجماليّة لها، بل من أجل جمع ما تبعثر وتفرق من نصوص وتقديمها إلى القارئ العربي، آخرها قصيدة " العدل والمياه" التي تم نشرها، قبل عدة أيام، على صفحات الفيس بوك، وبخط يد خالد الأمين نفسه ومكتوبة في 1968، وتكريماً لشاعر وإنسان، رغم كلّ احلامه وآماله الكبيرة، وقدرته على أن يكون في صفوف النخبة الثقافيّة والابداعيّة في العراق والعالم العربي، لكنّه اختار الإنحياز للإنسان وحرّيّاته ومحنته في مواجهة بشاعة السلطات وفاشيّتها، فكان هو الشهيد.
ولد خالد محمود أحمد الأمين في الناصريّة عام 1945. انتمى منذ بدايات شبابه إلى الحزب الشيوعي، رغم أن والده كان من أثرياء الناصريّة. أكمل تعليمه الابتدائي في المدرسة المركزية، والإعدادي في ثانوية الناصريّة. حصل على البكالوريوس في الاقتصاد من كلية الاقتصاد والعلوم السياسيّة، فرع الاقتصاد، بجامعة بغداد، عام 1967- 1968. نشر قصائده في النصف الثاني من الستينات في مجلَّتَي "العاملون في النفط" و"الناصرية.". ترك بصمته الشعرية الواضحة في الجيل اللاحق له من شعراء الناصرية. أعتقل في الناصريّة عام 1972.*
المقدّمات التي كتبها خالد الأمين:
سان جون بيرس
لشعر بيرس هيبة خاصة تشبه هيبة الدخول لدور(الى دور) العبادات الاولى ذوات الروائح الغامضة. وكي يتاح لشخص واحد أن يتكلم بمثل هذا الصوت فعليه أن يبدو وكأنه دولة كاملة من الشعراء وإن ميزان المدفوعات يجري لصالحها.
فخم، ملوكيّ. يقف في النخبة الممتازة من شعراء فرنسا القليلة، وشعر بيرس متعب، له ميزة التنبيه. انه يؤثر منذ الوهلة الاولى: انك الآن ( اصبحت) أزاء الواح خفيفة، لعبور صعب، وعليك استرجاع مقدرتك وطقس الانعاش ايضا كقاريء جيد على الاقل، لاكتشاف قارة من التجاويف والاستحضارات. شط مفتوح، نقاشات، مذكرات مع سليمان الحكيم، نفخ بعظام الهداهد ومع ذلك فكل الذي حولك ليس سحر ولا تعاويذ (انه منه والان اليك) أنت الذي عليك حبه.. وذلك بعد ان تعرف كيف:
(وعلى الفور أسمع الثياب المنشاة تبعث صوتا ناعما من الرعد عبر الغرفة)
واذا كان الشعر الخفيف..شعر الفواكه والاصبحة والاخوة، يبعث الرعدة والفرح المثلج المنعش.. هنا الشعر يبعث أول الأمر على نوع من الصداع ولكن غير الخفيف.
شاعر صعب، ملحميّ، من الطراز الاول.
ومن المفيد الالتفات هنا ان السفر الطويل الممض الاكتشافي يستأهل صداعنا هذا.
الاجهاد في تفهم ومصالحة هؤلاء هو شرف ووفاء للذين كتبوا ورسموا ( القارات والخيول والصحارى والاجساد التي تشبه الزوارق في غرف المنازل).
ان بيرس كشاعر ملحمي يظل شموليا بحماس باهر يضيف لكل الشواخص –المظاهر مدارها وبطاقة متجددة رائعة الشاشة. انه الاحساس والثقة في هذا الوجود الملوكي. هكذا يدأب في هذه الوجودات اللانهائية عن طريق الدخول في القاعة الواسعة والفارغة والمضاءة بالمشاعل:
(أسلحة محطمة في غور الفجر)، صف من المجاذيف يرتفع وآخر ينخفض..الخ.
الرهبة هنا من بهاء إنساني ومن عظمة هذا التركيب غير المحدود، ليس من صفعة مباغتة مجهولة. صفعة يد خفية..انها رهبة، ولكنها ليست رهبة مقابر ( تحركه الحاجة الى الكمال لا الحاجة الى الهرب) (غارودي)
وفي حدود كل هذه المباذخ يد وضن عفيف ثم أشكال تتوالد أيا كانت وكيفما اتفق.
الجمال أصبح وجود وانوجاد (وجوداً وانوجاداً) على نفس خط المحور من قيمة واحدة..
كيفما اتفق يظل هذا الكون هو الاغلى وبرغم كل التجهمات التي نحملها في سلة النهار إلى اسرة مستشفياتنا.
(حينما كان يركض اعتاد ان يعرق ذلك لكي يشرق
وكنت أعصر أقماراً على جانبيه تحت ركبتي الطفوليتين،
أحببت حصانا – من هو؟
وأحياناً،
( لان الوحش يعرف افضل اية قوة تجلب لنا الثناء)
(رفع رأساً برونزيا إلى آلهته، نافخا ومجعدا شبكات العروق)
ان السحرالعميق الذي يكمن في طفولة هو الذي ينيره الاطار الغريب البربري، الذي يشيع في ( مدائح) هنا نجد أجمل نص، وهنا لاجل ايحاء الفردوس الارضي، نجد ما هو أقرب اليه على الارض.
الكلام هنا عن عمر لا عن جزيرة: عن هذا العمر-
الطفولة. ( الطفولة التي لاتنكر) (غاتيان بيكون)
******************************************
ولد بيرس في آيار 1887 في الانتيل الفرنسية واشتغل موظفا في وزارة الخارجية الفرنسية واصبح يكتب بأسم سان جون بيرس بدلا من اسمه الحقيقي اليكسي سان ليجيه ليجيه.
حاز على الجائزة الكبرى التي تمنحها الاكاديمية الامريكية مرة كل خمس سنوات، وبوشاح كومندور في الآداب.
حاز على جائزة نوبل 1961
أهم مؤلفاته:
مدائح، المنفى، امطار، ثلوج، قصيدة للغريبة، الرياح، مجد الملوك، اناباز، مرائر ( منارات).
.....................................................................................
بول ايلوار
بول ايلوار رجل ويشتغل بالشعر. عدو مضاعف، ومناضل يتكئ على مدافع الحدائق. والاعداء جهلة ومخجلون. ليس من الصعب صداقة رجل يذكرك بأنه لاتياه (غير تيّاه؟) أو اقتصار على خريطة المحبة الإنسانية المجيدة، والأخاذة الشهية:
( نحن الاثنان يجب أن نمد أيدينا
خذ يدي، سأقودك بعيداً)
شاعر شرف وشهامة وكراهية وبغض. نظيف ومنزه، ومقلم الاظافر.. بسيط مثل قلم رصاص.
التكلم عن شعر هذا المناضل الضروري يبدو مبسطا ومضاء عن طريق التكلم عنه يملك ساقين ويدين وملحقات..الخ.
بول ايلوار الان هو شاعر الانسجام والتآلف ويقع ضمن تركيب النظرية. يقع في مركز المحور. ملتزم. طبقي و:
(معلوم اني أكره سيادة البرجوازيين وسيادة الشرطة والكهنة
ولكني ابغض أكثر الرجل الذي لا يبغضهم " يبغضه" نظيري
بكل قواه.)
أراكون. نيرودا، ناظم . وهو: يعتبر واحدا من أهم الاربعة في أدب الواقعية الاشتراكية (حجة الشعر الملتزم) مع بعض التحفظ.
وبعيدا عن التكنيات الصعبة والركوب في المعادلات اللغوية المعقدة. سلس. مباغت. منعش. يثير حزن غياب. جمالي أبداً. يغني أبهى الاخبار وهو يركب دراجة هوائية.
فهو:
( حر بالاخوة، وبالأخوة وحدها)
شاعر صباحات ومساءات أيضا. والاثنين أيضا:
( أيها الليل المبلل الدنيء
هل سنحتملك وقتا أطول؟
ألا نهز قذاراتك الواضحة؟
سوف لا ننتظر صباحا مصنوعا للقياس
نريد أن نرى بوضوح في عيون الاخرين)
هكذا اخوة مستمرة وناشطة:
(لقد لعبنا في الشمس، في المطر، في البحر، حيث لا نملك الا نظرة واحدة وسماء واحدة وبحرا واحدا)
وهكذا نكشف هنا عن فردوسات مستطاعة الوصول. ومع ذلك ففي الكثير من الاحيان نحتاج في هذه الحدائق المرتبة النظافة إلى الأخلاق الاستوائية العريضة لاثارة فرح أو ضر آخر. سعة صحراوية. هذه ليست صفة ايلوار.
بيرس أفخم لكن ايلوار أرق، وأشف الاثنان بعمق متواصل ودءوب. وبالنسبة للرقة والشفافية لاتتخلى عن بيرس الا أنها جزء يسير ضمن الاتجاه العام للصفة الكلية: الفخامة والملحمية.
أما ايلوار فلم يكن في يوم من الايام فخما. انها مسألة الغابة الاستوائية والحديقة.
ولد ايلوار في سان دني 1845 في فرنسا، وعانى من الجندية وأصيب بالغاز الخانق.
في عام 1920: انضم مع بريتون وأراكون وسوبو (سوبالت) للحركة السوريالية وهم مؤسسوها بالشكل الواضح ومع مساهمة فعالة.
في عام 1942: انتهى نهائيا كسياسي ملتزم، نشط وطبقي. وفي 1952 توفى وقبل ذلك كانت له:
""المقدرة على قول كل شيء"
..................................................................................
أندريه بريتون
أنت هنا وفوراً، مع واحد من اندر محرري جوازات المرور. صوت الخطأ الجسيم...شاعر ( البغايا الرائعات).
(قفوا.
انكم دالون، قفوا: انه من المستحيل ان اتحدث اليكم مالم تقفوا. قفوا كما ستقفوا (ستقفون) إلى نشيد المارسيليز أو إلى " الله يحرس الملك"
قفوا كما لو ان العلم امامكم.)
هذه العداوة كانت صوت قائد الجوقة الكئيب وهو يتلو عريضة الدادية (الدادائية).
الخارق. السعي وراء الخارق كالاعمى وتثبيته كتاريخ نهائي.
لغة التجنيد تشترط اسلوبها وكذا التطوع. الاسلوب صدمة، غموض فصيح. صدمة وقطع. يبدأ معه للغوص في الصخرة لا حولها والتي لم يستطع عبورها.
ربما ايقن بريتون ان هذا الوميض الذي يدخل للحم قلبه كسكين وهمي هو ليس تاريخ القناعة والكفاية العقلانية الاجتماعية.. اذن نحو الحلم بدل التاريخ ولكن ظهر بعد ان رعب العقلانية والموضوع اثبت وأقوى بكثير مما ظن هذا الشاعر المتفلسف، هذا البهلوان الفاجع، من ذلك التهيج الى السكوت اعتباطا الى هذا الفاتح الذي لم يخرج من وكره والذي لم يكن غير دونكيشوتي يمسك سلاحا.
فاتن الصياغة.. بأسم الحنين والركوب على تفجير الشكوى الخائبة والهروبية الجنسية كان اتهام الشراسة. من الواقع الى الحلم ثم نحو المغامرة. قطع الرعب الاول. فصيله. نسيانه. في غرفة باردة منعزلة. هنا يتضمن تماما الكلام عن الاسلوب، ان ذلك ليس صعب ( صعباً)، يرى أنسي الحاج ( ينتابك احساس بالضيق، البعض يخنقهم الضيق لأن كل قفزة تؤدي إلى متاهة أوسع.. الخ).
( التضارب والفوضى شيئان واقعيان في شعره حيث لا وجود للوحدة المنطقية في القصيدة. الوحدة الموجودة هي وحدة مناخ، وهذه حسية وانفعالية وخيالية وثانيا يجب ألا نعهد إلى عنوان القصيدة بمهمة انارة الطريق.)
هكذا نشعر تماما ايضا بأن هذه الفوضى واللاترابط الظاهري انما يكمل بالاخير وحدة ايحائية اشراقية عالية التصاعد.
هناك مفاجئة في الحلم... شعور جديد يدعو للالتفات في المباغتة دون علة. تأخذ نفسا لتستريح ثم تستكشف دون زمن. فهو اولا التواردات.
وهكذا يفقد التسلسل المنطقي اهميته ازاء هذا التسلسل المنطقي على الطريقة اللامنطقية.
(وأين نجد هذا الاصطدام الذي يحرر الصور والكلمات بكل هذه القوة؟ وأين نجد هذا التلاقي بين المجازات وبين العبارات المتحررة، هذا التلاقي الذي يرن رنين الظفر ويحرر الروح تحريرا جذريا؟)
(غاتيان بيكون)
(وبما ان بيرتون اصبح قلقا على رسالته، فهو يحاول، لكي يعالج، وهنا الخفي، أن يداويه بالاسلوب على الاقل.) ( غايتان بيكون)
والملاحظة الاخرى هي غياب التسلسل المنطقي عند انسي الحاج، وحول الترابط الذي يقول به بيكون، ان هذا ليس تناقض ( تناقضاً) الا لأول وهلة اذ هو تناقض غير وارد، فوحدة المناخ والاتجاه الايحائي يؤكد ترابط النفس الشعري ترابطا مدهشا ومستمرا.
لكن بعد كل ذلك يظل بريتون بين مسألة اكتشاف الفزع والصدمة والخارق والتأرجح بين سطح ( الاهمية الثانوية) وعقلانية (النموذج) البحث عن جدول تصاعدي لترتيب كميات ( اللحظات الحلمية).
هكذا اصبح غابة من الاحلام تعبر بقميص الفجر مؤخرة الفرصة وتحت السيطرة الصيفية القائظة.
................................................................................................
هنري ميشو
ولد 1899
سافر.
مسألة التصنيف الشعرية انما تعود هنا بتأكيدها على مغامرة تلقائية. مغامرة وانفلات وجسارة: الكلمة ككيان خطابي واللغة هنا سطح مثقوب... اصبح الانتظار عند الثقب لتسقط الاكتشافات كلمة..كلمة.
ان وساوس الضباب تحيل هذه الحرية ازاء الكهوف وجموح السحر الى محاورة تؤدى بطريقة الصراخ.. الصراخ ( والهول دون موضوع).
الكفاءة المركزية تقع للغة هناك ضمن الفسحة التي تمنحها لحمة الترابط في المناخ العام. الاستقلالية والنفس الخاص.. ثم الزج بأنسجام الوثبة داخل هذه المخططات والخفاءات.. الاحساس بترابط الاصباغ على سطح اللفظة.
هنا لا نجد كلام كثير( كلاماً كثيراً) لكننا نجد بوق ينفخ خلف المصائر. انها ارض سناره وسط الملك العام، فعل التمييز يلبط على السواء الاعتيادي. لغة محفزة تكفي لفتح الطبيعة امام مجاري من التسربات لاقصى حدود الاقل او اليأس في وضع شبحي.. هنا يولي زمن العناية المفرطة بالامل او الانسحاب الحاضر لابد من وضع اكتشافات الضجيج الذي تبعثه الرقية بهذه الابخرة الجمالية.. هنا جمال استثنائي.. احلام وتسولات.. تجديف على مساحة المائدة.. الانبهار والاختناق.
( يا لوريلو، يا لوريلو، اني خائف.. بعض الفترات: الظلام، وبعض الفترات: الهدير
أصغي، اقترب من صخب الموت،
لقد اطفأت كل مصابيحي
لقد اصبح الهواء فارغا يا لوريلو.)
أظن انه لم يعتقد ميشو يوما بان الضحك المميت والاستغاثة الصاعقة سيدوي صوتها. يكفي لملاحظة كل هذه القوة التي تبعثها سفينة من الانسدالات لفهم تنازع هذه الضعضعة ثم تهجية الحمامة دون خوذ او انضباط عسكري... لابد ان تدور حبة الرمل دورتها ونحن نكسو بكل عنجهية اسطورة الكنز الغامض:
"شاهدت الماء الذي يتوقف عن الجرى.
فاذا كان الماء أليفا، واذا كان ماءك، فهو لايندفق، حتى ولو انكسرت القنينة اربع قطع..الخ"
هل هذا مفعول قوة السحر..الخ
هذه ليست كآبة خاسرة، انها الرؤية من امام زجاج الدخان للرأس الذي يشبه كرة من الرصاص الثقيل تهوي بين كفي الرجل..
ثم البكاء حسب انفتاح الشهية.. هذه ليست ارباح (أرباحا).. الخ.. هكذا هنا تفوق بالحلم واستعانة به لالقاء كل الاشكال والترتيبات وتحويلها
الطاقة غير محدودة بحدود الحلم المنبعث من اشكالنا وترتيباتنا السالفة..
انها حلم الحلم، انها دائرة من الطباشير مرسومة على ذاكرة التوحش لما بعد حدود البطاقة. كل هذه تجرى بايماءات تجريدية والبوح يستثار بالالفة، اننا نثبت ونؤكد هنا ( تندر الصور في شعر ميشو ثم ان هي وجدت في شعره فأنها تختلف كل الاختلاف عن الصور العادية يقوم مقام المجاز هنا تحالف غريب بين كلمات تكون تجريدية في اغلب الاحيان او احساسات مشتركة..الخ) (غاتيان بيكون).
....................................................................................................
جول سوبرفييل
حينما كان بريتون وميشو يتعريان في الزمن الصافي، كان ميشو وحده يختنق بصراخه، اما سوبرفييل فكان يرتبط بشد (بشدة) اكثرللارض (بالأرض) ذات القارات الخمس، وليس هذا فحسب بل ليس من حاجة ملحة لإراحة الأعضاء في بلل الحلم.. صوت خوار وانتظار لما سيحل.
بساطة ورمزية وكلاسية ( كلاسيكية) في آن واحد مع فخامة النفس والصورة.. حزن مؤبد ومشقة تنقيب:
"الا ترى بأنه يميز النهار من الليل بصعوبة والسماء العميقة من القلب الذي لا اعماق له ذلك الذي يغذيه؟
اطفىء كل هذه المصابيح..
أنظر: ان أوردته تتوهج ..الخ
دعه وحيدا في فراشه. فالزمن يكدره."
الاسلوب المنطقي يشيع هنا بغنائية حميمة تشبه النواح بل والانتحار بكاء. شعر مغاني يرتفع باندفاعات الاقامة الاعتيادية على مساحة من الشعر البوحي لأوفى الاطفاءات.
(فمنذ قصائده الاولى 1919-1922 مر صوته من غير وهن، عبر شتى الحقول الادبية، فأتانا، رطباً كماء الينبوع، وقد التحق هذا الصوت من نواح عدة، بالبعض من الاهتمامات الحالية، يوجد بالحقيقة عند سوبرفييل بالاضافة إلى غنائية البوح عناصر اسطورية عامة، وشعور عميق بالابدية الكونية، ومواجهة الإنسان لمصيره الاصلي.) (غايتان بيكون)
هنا صرامة وتأكيد واجبين للاستفهام والجواب من فم واحد لأذن شخص واحد، لغة فعالية...
بطولة بدون جدوى، برغم ذلك توجد دوما الهدهدة وسط هذه الإشارات الموضحة بحذافيرها. ليست سوى نزعات تحت الدهشة الجبارة مغزى كل باطل يقف بعيدا عن هذه السيادة الحسية الإرهابية.
"لا تكن مندهشا، أغلق الأجفان حتى تصبح صخرة حقيقية".
ان استسلام سوبرفييل الهاجس واللااستثنائي يفاجئنا بمصادر النبع وهي تدور خلف الشباك الحديدي.
القلق والخوف من حزن صلب، حزن مفرط وهزلي ومع ذلك هو فسحة الأرض والنظر دون سبب بخط مستقيم بلا رابطة بعدما تساوينا في مغطس الدخان النافع ها هو يرجعنا تحت سماء مكشوفة وبصراحة وتلاطف ليس هنا وهما لتحقيق منطقي مقصود بل سعي لوهم (إلى وهم) بشري يمكن غلق الباب بعده نحو اهتداءات السكوت والتخيل لصيغة من مخاصمات شاملة وحزن ديني ذلك ما تقتضيه ممارسة الكشف الحلزوني اليومي.
هنا كثرة عذاب، وجمال دقة لصيحة موجهة ضد الاسماء ومن الغياب الى الحضور. توتر خط يحمل طابع التلاحم والمأساويّة لمناخ الكلاسية (الكلاسيكية) البعيد عن الابتذال والارتياب المدرسي.
هنا وضوح وشدة جزع، اختصاصيّ.. مليء بالرحمة .. ومع ذلك فهو يمدنا بالغرابة.
لقد تسلق السر القديم بذات القوة التي تمنحها اعترافات اللحظات الداخلية..
دعوة لبقية السلاح الخائب للتظاهر بذات الساحة التي تستميحك عذرها عن روءية ما.
.......................................................................................
بيير ريفودي (ريفيردي)
صوت الافتتان الأول، ومركبة المشهد السيد. ذلك كان يقع في رحلة السر الأليف لجيل التخبط الثوري الرنان. لغة السماء العصرية.
شاعر نقلات وتنوع موءثر وواضح وجوهري
سهل وخطر مثل بصمة ابهام.
هناك مسألة تثار في شعر رفيردي (ريفيردي) وهي سريالية هذا الشاعر بل وأبوته لها.
فأذا كان ثلاثي السريالية المرح مازالوا يرتدون البنطلون القصير وهم ينظرون إلى هذا الجلال الشائك، واذا كانت تطورات المجاز السريالية والقائمة على علاقة لغة الصور وتأثير الأداة لفتح مجالات البغتة والمصير خلال فضيحة المجازفة.
اذا كانت هذه هي قناصة الايحاء ونجمة الراية.. فأنها تظل اكثر بعدا واقل اقترابا من عائلة البيانات المقلدة.
ريفردي (ريفيردي) يقع في الذاكرة وعلى الماضي ودائرة العنف الداخلي.
مجاز رمزي حسي ومكانة سابقة في النداءات المعمقة والمفعمة بالانتباه الاستفساري تحت مصباح واقعي وأساليب اختبار علنية معرووفة.
كلام اضاءة واضطراب دور.
اصابة في اقدس مخارق الصيحة وهو يعبر مؤامرة السؤال الأفرد بين المعرفة والاسطورة، والأحسن معرفة والمجهول الذي ينصب في رأسه كصراخ وحش. صوت الأمرة والجزء المؤثر الغامض.
...................................................................................
ايف بونفوا
بين الاسطورة والحاجة يكون انشغال المعادلة والنتيجة تظل دوما للتشبث بحقيقة الاندلاع الشامل في الركض امام الايماءة المستمرة..
الايماءة الخالدة. اذا كانت البطولة غير هذا الدوي الذي يحقن الركض واللهاث بعلاقة التشويش والورم فهي تكون لاغير الاستكانة والانزواء في ملاحقة المصالحات المطلقة.
هكذا بين الفكر والقوس يتمايل بونفوا مثل بندول الساعة. وعندما تكون الخيبة هي دلالة الجهد المبذول لاية محاولة في تخفيف وطأة المناظرة الابدية...
تبدأ المناوشة لوصف البطولة او لإعلان القناعة والتبتل المزمن في لفظة الحسم وعن مركز الدائرة..
يدور حوله الخط المنحني من نقطة لينتهي بها وحول نقطة المركز وبذات المحور..
هناك فروق في المناظر الا انها لا تعوض وحدانية المسافة ولا يمكن التستر على هذه الفضيحة الداعرة.
الداخل لا عمق في الداخل ابدا هنا عند السمندر او دوف..الخ.
هنا لجاجة في التقصي الاعرج المبهور ذي العين الواحدة الدائرة حول نقطة المركز. وكل معرفة تقع هنا هي خارج المنحنى المشدود لا بحجة العمق الطاهر ولا.. الخ تلك هي حدود القرى.
وماذا فعل بونفوا هنا لكي يجلب كل هم القضاة والمهتمين غير الاستعانة بالحيلة الدائرية لاعلان البطولة والجري امام الاسماء الصناعية.
هنا مذاقات للطعم بين الحلو والحامض والمرارة ثم تأتي لتتخذ تفاضليا بكميات التدرج من بعد اللاشيء نحو اللانهاية. المظاهر هي الحضور الواقي بينما الحدس ارتعاشة وفي الوقاية والارتعاشة يكون الطيران في الهروب الكفيف.
من الدوران على بساط الجالس..
من المعرفة الفائقة للفكرة المنظمة، من ضد الخطأ الى ضد الصحيح، واللغة مرآة التحذلق والصعلكة الدامعة بهذا البرد الاشد ثبوتا في صمت القبر:
( أنت يا من تحركت جانبا عندما عبرت
واغلقت ممراتك حولها من جديد،
الكفلاء المحايدون لدوق التي لم تزل تضيء حتى الموت، وكونها لا شيء.)
كانت محاولات الشاعر الشاب في 1951 هي احساس التتبع في المسالك المحاطة بالمنافذ التي لا معنى لها ضمن وجود وكينونة سارتر الى كل فينومينولوجيي الحميات إلى وحدانية الشيء ضد الشيء يحيل الرأس في انحدار نحو الإله، هذا لم يكمل عنده الآية..
ولكن هي الطريقة ذاتها. الا ان ما فعله بونفوا هنا كان اكثر نهجية في الفكر- الحيرة في اللاحقيقية الظاهرية في تسلسله في العبارة الشعرية الفلسفية. القلق المشاع هنا هو نفس النار القديمة التي أوقدت في بأس السفرة نفس السقطة وبالبئر ذاتها. هل يمكن لهذا الحبور الذي يترنم به بودلير من سفلسه واشاعاته او نبوءة رامبو المخرمة بالبراغيث، هي البدل (البديل) المتكرر للتحسر..
اشاعة الطواعية والتنشق مع اجمل السباحين. فكرة معرفة موت، عظيم، متناهي (متناهٍ)..
الاسطورة: كلمات الطقوس العسكرية لزمن اشرف من ان يظل فيه سؤال بائس بسيط وحساس دون احتقار واهمال:
"اذا سيولد (إذ يولد) الظل من جديد
فأنه سيكون في الليل وخلال الليل"
قد تصبح كل تناسبات الانحدار مع الاشارات البسيطة المتباغضة وهي تقعي في هلاكها بين التمويه وبين الاسطورة، ومجانية الحلم وغاية الاصابع قد خفتت. ولا غير مزاولة عفوية او بالتمام ان الرعب مستمر.
هذه الفحولة المبطنة بالاستسلام الفطري للطبع والنهم هي فرجتي البندول التي مازال يحملها بونفوا.
وسيقوم مع اشباح صندوقه الليفي في:
"هذا اليوم في المساء
سنشعل نارا في القاعة الكبيرة.
سوف ننسحب،
وسندعها تعيش للموتى."
هوامش:
*التصويبات اللغوية والطباعية تمت بالتعاون مع الشاعر والكاتب عباس منعثر.
* ما يخص ولادة خالد الأمين، دراسته وحياته، فقد أخذناها من صفحة الشاعر حيدر الكعبي على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك.
*رصيف سوق الأزهار... مختارات من الشعر الفرنسي.. منشورات دار الأديب العراقي. 1970 ..ترجمة احمد الباقري..ص ( 3، 4، 5)، (19، 20، 21)، (28، 29، 30)، (33، 34)، (43، 44، 45)، (53)، (64، 65، 66)
*الاستشهادات التي ترد، بين مزدوجات، في النصوص اعلاه، تحال إلى اصحابها دون الإشارة إلى أرقام الصفحات، بينما تذكر المصادر في خاتمة الكتاب بهذا الشكل:
آفاق الفكر المعاصر... غاتيان بيكون
الادب الفرنسي الجديد... غاتيان بيكون
واقعية بلا ضفاف... روجيه غارودي
الشعر الفرنسي في القرن العشرين... انتوني هارتلي
عصر السريالية... والاس فاولي
مجلة شعر.